حال المسلمين مع القرآن الكريم تستدعي الدراسة المتعمقة ، ذلك أن المسلمين بعد القرون الأولى ، انصرف اهتمامهم بكتابهم إلى ناحية التلاوة ، وضبط مخارج الحروف ، واتقان الغنن والمدود ، وما إلى ذلك مما يتصل بلفظ القرآن والحفاظ على تواتره كما جاءنا ، أداء وأحكامآ - أقصد أحكام التلاوة - لكنهم بالنسبة لتعاملهم مع كتابهم ، صنعوا شيئآ ربما لم تصنعه الأمم الأخرى . . فإن كلمة ( قرأت ) ، عندما يسمعها الإنسان العادي أو يقولها ، تعني : أن رسالة جاءته أو كتابآ وقع بين يديه فنظر فيه ، وفهم المقصود منه . . فمن حيث الدلالة لا أجد فكاكآ بين الفهم والقراءة ، أو بين السماع والوعي .
أما الأمة الإسلامية ، فلا أدري بأية طريقة فصلت بين التلاوة ، وبين التدبر ، فأصبح المسلم اليوم يقرأ القرآن لمجرد البركة ، كما يقولون ، وكأن ترديد الألفاظ دون حس بمعانيها ، ووعي لمغازيها ، يفيد أو هو المقصود .
وعندما أحاول أن أتبين الموقف في هذا التصرف ، أجد أنه مرفوض من الناحية الشرعية ، ذلك أن قوله تعالى : " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب " ( ص : 29 ) يعني : الوعي والإدراك والتذكر والتدبر . . فأين التدبر ؟ وأين التذكر مع تلك التلاوة السطحية التي ليس فيها أي إحساس بالمعنى ، أو إدراك للمقصد ، أو غوص فيما وراء المعنى القريب ، لاستنتاج ما هو مطلوب لأمتنا من مقومات نفسية واجتماعية ، تستعيد بها الدور المفقود في الشهادة على الإنسانية وقيادتها إلى الخير ؟ . . بل أجد غياب بعض صفات عباد الرحمن التي وردت في القرآن الكريم ، ومن أنهم قوم يقبلون على القراءة بحواسهم ، فهم : يسمعون ، ويبصرون ، ومن ثم يتحركون .
نعم ، قد يغيب عن الإنسان معنى كلمة قد تكون غريبة عليه ، وربما يعز عليه إدراك جملة من الجمل ؛ لأن التعبير القرآني في درجة من البلاغة لم يتذوقها هو . . وما من شك في أن القرآن ، كتاب العربية الأكبر ، ومنهل الأدب الخالد . . ولا يقبل إطلاقآ أن ينتهي المسلم إلى ذلك النوع الذي ذكره الله تعالى حين وصف عباد الرحمن بقوله : " والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صمآ وعميانآ " ( الفرقان : 73 ) .
وأجد اليوم أن الذين يخرون صمآ وعميانآ ، كثيرون ، فالأمم الأخرى أدركت حال المسلمين مع كتابهم ، لذلك وجدنا إذاعات عالمية تحدد فترات لإذاعة القرآن ، فإذاعة لندن تقدم تلاوة يومية للقرآن تفتتح بها برامجها ، وربما تذيع إسرائيل أيضآ قرآنآ في فترات ومناسبات متعددة ، وكأنها اطمأنت إلى أن الأمة الإسلامية اليوم تسمع ولا تعي .
وهذا موقف لا بد أن نحسمه ، وأن نبتعد عنه ، ونعالج أسبابه ، وما سمعت كلامآ معقولآ أو مقبولآ في تبريره وتسويغه ، فقد ذكر بعضهم أن ابن حنبل رحمه الله رأى الله في المنام ، واستفتاه في أحب شيء يقرب إليه . قال : كتابي يقرأ . . فسأله بفهم أو بغير فهم ؟ قال : بفهم وبغير فهم ! !
والمعروف أن الأحكام الشرعية لا تؤخذ من رؤى النائمين ، ومهما كانت مكانتهم بين المسلمين . . الحكم الشرعي له مصادره من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم . . وهذا الكلام الذي يروى عن رؤيا ابن حنبل صح أو لم يصح ، لا ينبغي أن يكون له في النفوس ما يجعل معظم المسلمين على الحال الشاذة التي يقعون فيها الآن .
لا بد من قراءة القرآن الكريم قراءة متدبرة واعية تفهم الجملة فهمآ دقيقآ ، ويبذل كل امريء ما يستطيع لوعي معناها وإدراك مقاصدها ، فإن عز عليه سأل أهل الذكر . . والمدارسة للقرآن مطلوبة باستمرار . . ومعنى مدارسة القرآن : القراءة والفهم والتدبر والتبين لسنن الله في الأنفس والآفاق ، ومقومات الشهود الحضاري ، ومعرفة الوصايا والأحكام ، وأنواع الترغيب والترهيب ، والوعد والوعيد ، وما إلى ذلك مما يحتاج المسلمون إليه لاستئناف دورهم المفقود .
الشيخ / محمد الغزالي رحمه الله .
كتاب : كيف نتعامل مع القرآن .
تعليقات
إرسال تعليق